الخلود

أذهلني ذلك الصبي الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره حين قال لي في حوار قصير معه: أنا لن أموت أبدا !! فتعجبت أن صبيا في مثل عمره يفكر في الموت الذي لا يرهق هاجسه عادة إلا من تقدم به العمر .. ولكن ذلك الصبي كان یعنی شیئا آخر أعمق فكرة، إذ قال: سأجعل الناس لا ينسوني بشيء سأصنعه في حياتي، يبقى بعد موتي !! لم أحب أن أسمع كلمة الموت من صبي في هذا العمر، إلا أنه استخدمها في سیاق سيجعله بتوفيق الله من ممتاع الحياة ورواد التغيير.
هذا الموقف العابر جعلني أتساءل : كم عدد أولئك الذين مروا على درب الحياة منذ أن بدأت ؟ وكم عدد الأسماء التي نتذكرها من بينهم ؟ ولماذا نتذكر أسماء محددة فقط دون غيرهم؟

إن من مروا في الحياة لا يمكن أن يحصيهم إلا الله، ومن بين تلك الجموع الغفيرة لا نتذكر إلا القليلين، أولئك الذين تركوا في الحياة أثرا نتذكرهم به.. أثرا يبقى شاهدا لهم، وعنوانا الحياتهم، وعلامة يظلون بها عالقين في عقول الناس وأذهانهم.
إن هذه الفئة من الناس التي تترك أثرة هي فئة يملأ وجود أصحابها الحياة، فيخترق الزمن ناشرة ذكرهم وحضورهم على طول خط الحياة الممتد بلا نهاية مرئية.. هذه الفئة من الناس – وهم قليلون، بل قليلون جدا – إما أنهم قد تركوا وراءهم علما، أو أنشؤوا مدرسة، أو بنوا مسجدا، أو حفروا بئر، أو كفلوا يتيماً أو أيتام، أو ابتكروا اختراع غير حياة الناس، وجعلها أكثر سهولة وراحة.
ما الذي يجعل للإنسان عمرا آخر بعد موته؟
إن ذلك يكون بالأثر الذي ينجح في صناعته، فيفتح به مسارا جديدا في الحياة، أو يغير مجراها، أو يصنع أحداثها الكبرى، فيحقق لنفسه بذلك شكلا من أشكال الخلود الأبدي الذي يتمناه الناس، إنه خلود الذكر.
ماذا يحتاج الإنسان ليصنع لنفسه هذا الخلود؟
إنه لا يحتاج إلى شيء صعب، كل ما يحتاجه أن يقرر أن يعيش حياة مختلفة، حياة ملؤها الطموح والعمل والأمل، حياة تحركها الإرادة الصلبة وتسترشد بعقل حي مفكر، ويخالط صاحبها نخبة من الناس تقدر قيمة العقل، ودور الإنسان، وأهمية ترك الأثر، والحاجة المستمرة إلى تغيير العالم.

 

الدكتور سعد العريفي